قال سفيان بن عيينة : كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ،ومن أصلح ما بينه و بين الله أصلح الله ما بينه و بين الناس،ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه)
إن حقاً على من طلب العلم أن يكون عليه وقار وسكينة وخشية وأن يكون متبعاً لآثار من مضى قبله......
Click to Visit Click to Visit Click to Visit Click to Visit Click to Visit

الأحد، 1 سبتمبر 2013

سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقه وتقديره؛ فإنه سبحانه اختار نبيّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة إلى الخلق لهذا الدِّين الكامل لينشره بين العالَمين، واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين أبَرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علْمًا وأقومها عملاً وأقلّها تكلّفًا، جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيّهم وبعد وفاته فنصر الله بهم الدين ونصرهم به وأظهرهم على كل الأديان وأهلها، كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديّون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، فكانت خلافتهم أفضل خلافة في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم .
أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان وأبو الحسن ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان أفضلهم خليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم [«ورفيقه في الغار»](1)[م1] الذي نطق بِمَا نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم [«عام الحديبية حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار»](2)[م2] [«الذي ثبّت الله به المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم»](3)[م3] [«ونصر الله به الإسلام حين ارتدَّ مَن ارتدَّ من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم»](4)[م4] [وكان رضي الله عنه من بركته على هذه الأمة ونصْحِه لها و وفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه][م5] الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: [«لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدّثون يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في الأمة أحد فإنه عمر»](5)[م6] وقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر: [«والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجّك»](6)[م7] وسأل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم [«عن أحب الرجال إليه ؟ قال: أبو بكر، قال: ثم مَن ؟ قال: عمر بن الخطاب وعَدَّ رجالاً»](7)[م8] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم [«أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر - رضي الله عنه - فنزع ذنوبًا أو ذنوبين؛ يعني: دَلْوًا أو دَلْوَين، قال: ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت من يده غرْبًا فلم أرَ عبقريًّا من الناس يفري فرِيّة حتى ضرب الناس بعَطَن»](8)[م9] .
[ولقد صدق الله رسولَه الرؤيا فتولّى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر - رضي الله عنه - وقويَ سلطان الإسلام وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها وفُتحت بلاد الشام والعراق ومِصر وأرمينية وفارس حتى قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفًا وستًا وثلاثين مدينة مع سوادها، بنى فيها أربعة آلآف مسجد، وكان رضي الله عنه مع سعَة خلافته مهتمًّا برعيته قائمًا فيهم خير قيام][م10] قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [إن الله أعزَّ به الإسلام وأذَلّ به الشرك وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عُرى الإسلام مطيعًا في ذلك لله ورسوله، وقّافًا عند كتاب الله، ممتثلاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مُحتذيًا حذو صاحبيه، مشاورًا في أموره السابقين الأوّلين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه][م11] [فقد شرط رضي الله عنه على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميّز عنهم باللباس والأسامي وغيرها وأن لا يُظهروا الصليب على كنائسهم ولا في شيء من طرق المسلمين وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين، ولقد كان رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلّهم الله][م12] قال أبو موسى الأشعري: [قلت لعمر: إن لي كاتبًا نصرانيًّا ؟ فقال عمر رضي الله عنه: ما لك، قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: 51]، أمَا اتّخذت حنيفًا؛ يعني: مسلمًا، قال: قلت يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال رضي الله عنه: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله ولا أُعزّهم إذ أذلّهم الله ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله][م13] هكذا كانت سيرة عمر رضي الله عنه .
ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولّي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئًا بسيطًا، كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم«فقد لحق النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مشركٌ ليقاتل معه فردّه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إني لا أستعين بمشرك»(9) .
ولقد كان أمير المؤمنين رضي الله عنه مع هذا الحزم والحيطة بأمور المسلمين في مجانبة أعدائهم والغلظة عليهم كان ذلك سببًا قويًّا لنصر الإسلام وعزّة المسلمين، وكان رضي الله عنه يكتب إلى عماله يحذّرهم من الترفّع والإسراف «كتب إلى عقبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال له: يا عقبة، إنه ليس من كَدّ أبيك ولا من كَدّ أمك فأشبِع المسلمين في رحالهم مِمّا تشبع منه في رحلك وإياك والتنعّم و زيّ أهل الشرك ولباس الحرير»(10) وكان رضي الله عنه لا يحابي في دين الله قريبًا ولا صديقًا، الناس عنده سواء، يروى عنه «أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، واللهِ لا أجد أحدًا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفتُ عليه العقوبة»(11) .
وكان عمر - رضي الله عنه - يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول: «إني لا أبعث عليكم عمالاً ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكنْ أبعثهم إليكم ليعلّموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنّة نبيكم فمَن فعِل به سوى ذلك فلْيرفعه إليّ»(12) وكان رضي الله عنه مهتّمًا بأمور الرعية صغيرها وكبيرها [خرج ذات ليلة إلى الحرّة في المدينة ومعه مولاه أسْلم فإذا نار تسعّر فقال: يا أسْلم، ما أظن هؤلاء إلا ركبًا قصر بهم الليل والبرد فلمّا وصل إلى مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تسكّتهم به ليناموا، فقال عمر رضي الله عنه: السلام عليكم يا أهل الضوء، وكَرِهَ أن يقول يا أهل النار، ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون ؟ قالت المرأة: يتضاغون من الجوع، قال: وأي شيء في هذا القدر ؟ قالت: ماء أسكّتهم به أوهمهم أني أصنع طعامًا حتى يناموا واللهُ بيننا وبين عمر، فقال عمر رضي الله عنه: يرحمكِ الله، وما يدري عمر بكم ؟ قالت: أَيَتَولّى أمرنا ويغفل عنّا ؟ فبكى عمر - رضي الله عنه - ورجع مهرولاً فأتى بعدل من دقيق وجراب شحم وقال لأسلم: احمله على ظهري، قال: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين، قال: أنت تحمل وزْري عنّي يوم القيامة ؟ ! فحمَلَه رضي الله عنه حتى أتى المرأة فجعل يُصلح الطعام لها وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلّل من لحيته حتى نضج الطعام فأنْزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها فأكل الصبية حتى شبعوا وجعلوا يضحكون ويتصارعون، فقالت المرأة: جزاك الله خيرًا، أنتَ أولى بهذا الأمر من عمر، فقال لها عمر رضي الله عنه: قولي خيرًا][م14] .
وما زال رضي الله عنه وأرضاه قائمًا بأمر الله ناصحًا لعباد الله [إلى أن قتِل شهيدًا في آخر شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة خرج لصلاة الفجر وكان إذا مرَّ بين الصفوف قال: استووا حتى إذا لم يرَ فيهم خللاً تقدّم فكبّر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحوهما في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبّر فطعنه غلام مجوسي فتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه ليصلي بالناس ثم احتُمِل إلى بيته فجعل الناس يدخلون عليه ويُثْنون عليه][م15] «فدخل عليه شاب من الأنصار فلمّا أدبر الشاب إذا إزاره يَمَسّ الأرض فقال: ردّوا عليّ الغلام ثم قال له: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك»(13) .
ودخل ابن عباس - رضي الله عنهما - عليه فقال له: «أليس قد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعزّ الله بك الدين والمسلمين فلما أسلمت كان إسلامك عزًّا وظهر بك الإسلام وغادرت فكانت هجرتك فتحًا ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتال المشركين ثم قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنك راضٍ وآثرت الخليفة بعده على منهاج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قُبض الخليفة وهو وعنك راضٍ ثم ولِيت بخير ما وليَ الناس؛ مصّر الله بك الأمصار وجبى بك الأموال ونصر بك العدو ثم ختم لك بالشهادة فهنيئًا لك، فقال عمر رضي الله عنه: أتشهدُ لي بذلك عند الله يوم القيامة ؟ قال: نعم، قال: اللهم لك الحمد»(14) «ثم قال عمر لابنه عبد الله: يا عبد الله بن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - فقل: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه؛ يعني: مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فدخل عبد الله بن عمر على عائشة بعد أن سلّم واستأذن فوجدها قاعدة تبكي فأخبرها بقول أبيه عمر، فقالت رضي الله عنها: كنت أريد المكان لنفسي ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فرجع عبد الله فلمّا أقبل قيل: يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله، فقال: ارْفَعُونِي فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إليه فقال: ما لديك ؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذِنت، قال: الحمد لله، ما كان لي شيء أهم إليّ من ذلك فإذا أنا مت فاحملوني ثم سلِّم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين، ففعلوا ذلك حين قُبض فأذِنَت فدُفن مع صاحبيه رضي الله عنه ورضي الله عن أبي بكر وصلى الله وسلم على نبيه محمد»(15) .
هكذا - أيها المسلمون - كانت سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في نفسه وفي رعيّته، قنوتٌ لله وقوّة في دين الله وعدل في عباد الله فكان من خيار الصحابة الذين قال الله فيهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100] .
وكان الناس على عهده خير القرون بعدهم فلمّا تغيّر الناس وتبدّلت أحوالهم وظلموا أنفسهم تغيّرت أحوال ولاتهم «وكما تكونون يولّى عليكم»(16) فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، نسأله تعالى أن يُعيد للمسلمين مجدهم وأن يُصلح لهم ولاتهم وأن يجعلهم آخذين بالحق تاركين للباطل، نسأله تعالى أن يجعلهم آمرين بالمعروف وناهيين عن المنكر، نسأله تعالى أن يجعل عقلائهم آخذين على أيدي سفهائهم، ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمتنا على الحق وأن يجعلنا مِمّن تعاونوا على البِرّ والتقوى وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة؛ إنه جوادٌ كريمٌ رؤوفٌ رحيم .
والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيّه وعبده ورسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات: